فقط .. لو يتكلم النص !!


قراءة في ديوان " أوقات خارج الوقت "


 للأديب الليبي "عبد الباسط أبوبكر محمد "

بقلم : الصديق بودوارة.



(( أبسطُ الشمع فوق ألواح الكتابة الملساء 
قبل أن تخط عليها
ودع كتابك يكشف عن نواياك
يحمل نبض وجدانك وانبهارك بمفاتنها ))
من كتاب " فن الهوى " للشاعر الروماني (أوفيد ) القرن الأول ق.م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الكتاب يكشف عن النوايا ، هذا ما أبدعه أوفيد ، فماذا عن نوايا الأديب الليبي عبدالباسط أبوبكرمحمد ،عندما كتب ديوانه الذي أتناوله الآن ؟
الديوان هو " أوقات خارج الوقت " ، وهو من منشورات " مجلس الثقافة العام " من القطع الصغير ، وعدد صفحاته 86 ، وقد احتوت على 22 نص ،درج المعتادون على الاستسهال على تسميتها بالشعر !!



النص الأول في الكتاب كان عنوانه "هامشٌ صغير" ، وهو أروع نصوص الكتاب على الإطلاق ، والمفارقة أن هذا النص بالذات هو النص الوحيد الذي لم يتكرم عليه "عبد الباسط" بالمزيد من اللغة ، فقد مارس عليه فعل الاختزال كما ينبغي ، فجاءت عباراته مشحونة بالكثير في القليل جداً من الكلام ، لهذا كان النص بهذه الروعة :
((أن تحسب لليوم زاداً من الكلام 
أن تذبل كلما تبدد الوهم 
أن تمتطي فوق خوفك 
هذا العبث 
لتجيز كل شئ 
وتتجرع الوقت المر لحزمة المخاوف 
هامشٌ صغير 
يفك ضفيرة العقل 
ويذيبك في الرجاء 
هامشٌ صغير ..
فقط يتسع لقلمي كي ينسكب !!))
والآن .. لماذا لا يرمي الكاتب بحجرٍ في بحيرة نصوصه ؟ لماذا لايحرك الراكد في مشاعر بوحه ، ولماذا يصر دائماً على استقامة مشاعره بمعنى ثبوتها على وتيرة واحدة لا تتغير ؟
لاشئ يوحي بالحراك هنا : 
(( أن تحسب لليوم زاداً من الكلام 
أن تذبل كلما تبدد الوهم 
أن تمتطي فوق خوفك 
هذا العبث 
لتجيز كل شئ 
وتتجرع الوقت المر لحزمة المخاوف))
ثمة خط مستقيم لا يغير اتجاهه ، (( أن تذبل كلما تبدد الوهم )) الذبول مقابل التبدد .
(( أن تمتطي فوق خوفك هذا العبث )) ، حتى العبث هنا ـ وهو الاحتمال الوحيد للحركة ـ جاء مقيداً بأرضية راسخة من الخوف .
لاشئ إذن يبعث فعل الحركة في الشئ الآخر ، لا الذبول يمكن له أن يسند التبدد ، ولا العبث يستطيع أن يغير من واقع الحال مادام مقيداً بالخوف . 
قبل ألف سنة من الآن قال "زهير ابن أبي سلمى " : 
" ما أرانا نقول الا معاراً .. أو معاداً من قولنا مكرورا " 
لكن زهير لم يوضح إذا ما كان التكرار ماضياً يصب في مصلحة حاضر النص أم أنه تشتت ذهني تشي به عقلية الكاتب ، وأنا أركز هنا على مسألة تكرار المعنى في النص ، لا لأبين نقيصة في نتاج هذا الكتاب بالذات ، وإنما لأناقش فكرة تستحق أن توضع على طاولة النقاش من حيث كونها لا تتعلق فقط بهذا الموضوع بقدر ما تتكرر في نصوص أغلب من يكتبون النص النثري المعنون في الغالب بقصيدة النثر ، ولعل النص الثالث في الديوان وهو "منام" يمثل حالةً تجسد هذا الحدث من ناحية كونه "حدث تكرار" أكثر من غيره :
(( رأيتُ فيما يرى النائم 
امرأة 
تشتعل على مقربة مني )) 
الفعل هنا لازال فعل سكون كما كان في مستهل الكتاب ، فالنوم فعل سكون حتى وأن كان مهجوساً بالمنام ، فماذا عن باقي النص :
(( لأجلها أرتكبُ القصيدة 
وأختبئ دائماً وراء لغتي 
مسكوناً بهواجس باردة 
متنقلاً بخطاي من هاويةٍ الى هاوية))
التواري هو فعل ردة الفعل بالنسبة للكاتب ، لا فعل هنا سوى انعدام رد الفعل ، فالتالي لفعل الرؤية في المنام ، هو فعل الاختباء وراء اللغة ، وحتى الهواجس هنا هي "هواجس باردة" أما الخطى فهي تنتقل دائماً من عمقٍ في الأسفل " هاوية" ، الى عمقٍ في الأسفل أيضاً " هاوية" أخرى .
ولكن ماذا عن اللحظة الوحيدة التي أتيحت للانتفاض في هذا النص ؟ 
إن صاحبها يقتلها في المهد على هذا النحو :
(( أرفعُ نظري لسحابة الاحتمالات )) 
جيد .. ففي اللحظة التي تولد لدِّي الانطباع بأن ثمة ثورة في الفعل لديه ، ممثلةً في نظرٍ يتجاوز واقعه ليتطلع الى الأعلى ، لكن عبد الباسط يأده على هذا النحو :
(( مطرٌ يبدأ من عيونك الآن 
كي يحتويني )) 
هذه اللحظة بالذات همست لنفسي : رائع ، هذا مطر يهطل ، وما الذي يوجد في المطر إلا انبعاث البذرة من جمود التراب ؟ وما الذي يوجد في المطر سوى ثورة الارتواء على سنين العطش ؟ لكن كل هذا يصبح مجرد أمنية ماتت لتوها :
(( أنا الشاسع على خارطة الأسئلة 
المنطفئ فيك بهدؤ مقيت
والغائر جداً كبدايةٍ عميقة))
لاشئ إذن يبعث بالثورة في جمود النص ، لاشئ ، فالانطفاء هو قدر الانفعال ، والهدوء هو سيرة الثورة في نص لا يُراد له في نهاية المطاف إلا أن يسير جنب الحائط على الدوام.
ولكن ، إذا كانت الحكاية ـ حسب "عبدالله ابراهيم" في كتابه القيم "المتخيل السردي" ـ تعود إلى زمن طفولة الجنس البشري ،أي إلى بدايات تأسس الوعي الإنساني في مراحله الأولى ، فهل يجوز للحكاية أن تفرض حضورها على نص يقول أصحابه بالانتماء إلى قصيدة النثر ؟
في الواقع كنت اعتبر هذا انتصاراً لواقعية القصة القصيرة في حال حدوثه ، غير أن سؤال الهيمنة هنا سيقودني بالتالي إلى علامة استفهام مهمة تتعلق بمن سيبسط ظله على الآخر ؟ وهنا بالذات يبرز دور صانع الكلمات باعتباره ميزاناً لايجوز لنا أن نتجاوز السؤال عن مدى مقدرته على فرض اسلوب نصه على الحدث كي لا يهيمن جنس أدبي على آخر في حضور صاحب النص :
(( ربما .. 
تذكر قلبه لحظة رآها 
وربما ..
سقط منه قلبه لحظة غابت
ربما ..
خذلته خطاه بالقرب منها 
ولم تلتفت 
ربما ..
كان عليه ألا يذهب بظنونه بعيداً ))
كان هذا هو نص "ربما" خامس نصوص الكتاب ، وهو النص الذي وقع تماماً في أسر القصة القصيرة دون أن يدفع عنه صاحبه غائلة الارتهان إلى جنس أدبي آخر ، ودون أن يتدخل لفض الاشتباك .
" أوفيد " ، فعل هذا منذ القرن الأول قبل الميلاد عندما اتكأ ـ وهو الروماني الأصيل ، على موروث الاغريق العظيم ، مستعيراً من حرب طروادة التي سجل "هوميروس" تفاصيلها منذ القرن الثامن قبل الميلاد ، الا أن أوفيد سخّر مجد الحكاية هنا لخدمة النص :
(( كي تستميلها ..
أضف ضراعات الحب عربوناً
فمن قبل استمالت الضراعة قلب أخيل
فأعاد جثة هكتور إلى أبيه بريام
والآلهة الغضبى 
لا يحرك قلوبها غير ضراعات المتعبدين
امنح الوعود ، فليس عليها حساب
فبالوعود يغدو كل أمرئٍ ثرياً )) 
هكذا تكلم "أوفيد" ، استعان بالقصة ، بالحدث الممعن في التفاصيل ، لكنه لم يرتهن له ، هو فقط اقتبس منه شعلة صغيرة ، لكنه أشعل بها ناره العظيمة التي تخصه هو دون غيره . 
ولكن .. ما الذي يجعل السر حرماً مقدساً بالنسبة لعبد الباسط بوبكر ؟ ، أنه يتحصن به على الدوام : 
(( أقولك بين قلبي وبيني 
أخفى من قصيدةٍ تثير الشبهة 
وأروعُ من سر 
لن يعرف طعم الشائعة )) 
انه يخط لنفسه متاهة لا ينصرف عن الاتجاه إليها مهما تعددت الدروب :
(( الأصابع التي ترسمك 
نوافذَ للقلب 
والعيون التي تحتويك 
أفقاً للفرح
أين هي الآن ؟
بين حواسي وبينك 
وقت قاحل 
مسافة لا يكسرها الصمت 
ولا تبزغ فيها الرؤية ))

متاهة الحيرة التي يصنعها دائماً كلما افتقد وجه الحبيبة ، المتاهة هنا تُصنع ، انها تُستحضر ويتم استدعائها كبديل للوجه الغائب عن الحضور ، كل شئ هنا يحتفظ بمسافته الخاصة به ، لذلك يصبح الكاتب دائماً بمنأى عن المواجهة المباشرة : 
(( بين حواسي وبينك )) 
الحواس تتوسط الموقف بين صاحب النص وأحاسيسه حفاظاً منه على عدم التماس مع الموقف بشكل مباشر ، الغريب أن هذا الموقف بالذات يصبح منهجاً للكتابة عنده حتى عندما يتعلق الأمر بلحظة انبعاث الذات : 
(( أطلق الأمنية 
وأجري تحتها سؤالاً )) 
لا يوجد هنا إلحاح على الخلق ، كل ما في الأمر سؤال يستفسر عن إمكانية ولادة الأمنية من رحم التمني :
(( أزرع في الأفق عشاً للاحتمال )) 
هنا أيضاً أفق يستقبل البذرة ، أفق شاسع بطبعه ، ولأنه كذلك فهو لن يعد بطبيعة الحال بموعد أو مكان للانبعاث ، فهو أفق شاسع وكفى ، هنالك أيضاً معضلة الاحتمال ، فالعش لايزرع هنا لليقين بحدوث انبعاثه من رحم الأفق ، أنه أيضاً يخضع للاحتمال ، لنظرية بين بين " فلاشئ مؤكد بهذا الخصوص .
(( أطلق الأمنية 
كلما خلفني الحلم 
أزرع الأفق نبضة حائرة 
قفزة في الهامش الضيق ))
هذا الأفق الذي يتأرجح بين الاحتمال هناك والحيرة هنا ، اذ أن سلطة الحسم في نص "عبدالباسط أبوبكر" تغيب تماماً كلما أشرفت على التواجد ، فحتى الهامش يجعله ضيقاً :
(( قفزة في الهامش الضيق )) ، ومادام الهامش ضيقاً إلى هذا الحد فمن أين تأتي القفزة ـ وهي رمز فعل الحركة ـ من أين تأتي بقدرة التغيير وقد حكم عليها بضيق الهامش ؟
((أطلق الأمنية 
وأفرغ عليها صمتاً )) 
ثمة حاجز حديدي هنا يقف في وجه فعل الحركة ، حاجز لايراه احد ، لكن الإحساس به جارف إلى حد لايمكن تجاهله ، فلاشئ يقدر على الكلام ، حتى عندما يتهيأ اللسان لذلك :
(( وأفرغ عليها .. صمتاً )) 
ثمة تضاد يبرز في هذا النص ، انه التضاد الذي يؤكد رغبة الانزواء ، ثمة فعلان يتآزران لتأكيد وجود فعل ثالث :
((أتعالى عن الوقت الحاد
ارتمي في حضن الروح ))
التعالي هنا ، علو .. اندفاع نحو لحظة توجد هناك ، سامقة لا تطالها الموانع ، لكن النهاية سرعان ما تطفئ كل شئ :
((ارتمي في حضن الروح)) 
هاهو الفعل المضاد يقبل ، الارتماء مقابلاً للعلو ، وكأن صاحب النص يتراجع عن رغبة طارئة بالثورة على الجمود في نصه .
(( اشرب من نبع السكينة ))
وكأنه يعلن استسلامه العلني هذه المرة ، ويخبر المنتظرين : لاتأملوا في شئ ، لن انفض الغبار عن سكينتي :
(( أوزع حلوى الدهشة 
وأضيق عن كل يد 
نقشاً في القلوب الحائرة 
نافذةً على المستحيل 
وكوةً في عتمة النفق ))
الرؤية الخارجية للنصوص الواردة في ديوان " أوقات خارج الوقت" تقودنا إلى لغة متينة السبك يتمتع بها الكاتب ، وقدرة على تشكيل الجملة الشاعرية ودفعها باتجاه النمط الذي يؤدي بها إلى الوفاء بالتزامات النص على اختلافها ، أما الرؤية الداخلية فتفصح عن نهج لا يعتقد بغير الصمت لغة للكلام ، والانزواء وراء مفردات شاهقة ، لالشئ ، إلا للاحتماء بظلها الواسع حتى لاتتسرب أشعة الشمس إلى ضبابية النص .
ثمة إصرار على تفادي الموقف وإعلان الموقف ، فهل يريد "عبد الباسط بوبكر" أن يخبرنا أن قمة اتخاذك لموقف ما هو في تجاهلك لفكرة أن تعلن هذا الموقف ؟
أعتقد أنه كان يقصد هذا الاتجاه بالذات ، إن شاعرنا الودود يريد أن يخبرنا بابداعٍ متناه عن ردة فعل سلبية فرضها واقع سلبي لم يتوقف طيلة عشرات السنين عن دفعنا إلى متاهةٍٍ من الصمت تجبرنا على الانطفاء سنةً بعد أخرى ، واعتقد أنه نجح في إيصال قارب ديوانه إلى هذا الشاطئ بالذات ، وهنا بالذات تتجلى قدرة المبدع على الوصول بقارئه إلى ما يريد .
وأخيراً ، أعود لأسأل نفسي أنا صاحب هذه القراءة ، هل نجت فعلاً في معرفة ما يرمي إليه أديبنا صاحب هذا الديوان ؟ ربما ؟!! ولكن في كل الأحوال يبقى "عبد الباسط أبوبكرمحمد " صوتاً لازماً للمشهد الأدبي الليبي ، لأنه ينحاز إلى فكرة أن يحتفي صاحب النص بلغة نصه ، فقط لو يتكلم نص صاحب النص !!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الوقت كالسيف

Blogger widget

التقويم

Blogger widget

إشترك ليصلك الجديد

ضع إيميلك ليصلك كل جديد

تابعنى على هذه الصفحات

 FacebookYoutube 

صفحتى على الفيس بوك

 
تعريب وتطوير : صالح سعد يونس | تباريح العشق والوجع -\- مركز تعريب وتطوير المدونات copyright © 2013. تفاصيل - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website Published by Mas Template
Proudly powered by Blogger