المشهد الشعري في ليببا *
حوار مع الشاعر الليبي عبد الباسط أبو بكر محمد
حاوره : الشاعر السوري أسامة أسبر*
أسامة:
أهلاً بالشاعر
الليبي عبد الباسط أبو بكر محمد ضيفاً على “مجلة الوضع الصوتية” في لقاء يجريه أسامة إسبر لبرنامج: بأصواتهم، الديوان الصوتي للشعر العربي الحديث. أهلاً وسهلاً عزيزي عبد الباسط. نحن مسرورون اليوم لوجودك معنا في هذا البرنامج.
عبد الباسط: أهلاً بك أستاذ أسامة على هذا الأثير المفتوح، حيث
القلوب مفتوحة والأصوات مفتوحة والمجال مفتوح. مرحبا بك أخي أسامة.
أسامة: أهلاً بك. نحن مسرورون خاصة وأنه لدينا فضول أن نعرف عنك أكثر وعن ليبيا بعد
التغييرات الكثيرة التي حدثت فيها في إطار ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي،
وأيضاً عن المشهد الشعري. وأود أن أعترف هنا بأن هناك تقصيراً إعلامياً عربياً في تغطية المشهد
الثقافي والأدبي في ليبيا. هل تريد أن تقول شيئاً عن هذه المسألة؟
عبد الباسط: المسألة بالنسبة للتقصير طبعاً، فقد كتبت في نص ( احتفاء
) ولا يشطبها أعمى من كيان الجغرافيا العظيم.
أسامة: حلو، حلو.
عبد الباسط: أحياناً في بعض الأحاديث الثقافية في مشارق الوطن
العربي ومغاربه، إذا اصطلِح على هذه التسمية وإن كان هناك هذا الكيان القائم، يتجاوزون
ليبيا. فإذا بدأوا
بالغرب يصلون إلى تونس ويتجاوزون ليبيا.
أسامة: هذا خطأ.
عبد الباسط: أغلب التجارب كذلك. وللأسف، إذا ذُكرت التجارب الشابة الشعرية أو الروائية
أو القصصية وما إلى ذلك.. هناك تقصير عند من يعد على سبيل المثال الملفات الشعرية أو أو غيرها، نلاحظ
أنهم يتجاوزون ليبيا بقفزة سريعة. وهي على الأقل كيان جغرافي قائم.
أسامة: أنا أعدك بأن مجلة الوضع الصوتية ستخترق هذه الحالة.
عبد الباسط: لا، هناك أصوات جيدة كثيرة تتفاعل مع الحداثة ونصوص
راقية جداً وتحقق المتعة وفي الوقت نفسه متواصلة مع المتلقي العربي وفي الوقت نفسه
لها إنجازاتها على مستوى قصيدة النثر .
أسامة: عظيم.
عبد الباسط: وعلى مستوى التجربة.
أسامة: سنبدأ أولاً بتجربتك وسننتقل كي نسمع عن الأصوات التي
تتحدث عنها.
عبد الباسط: متفقون.
أسامة: أود أن أبدأ معك بسؤال حول بدايات التجربة الشعرية لديك. هناك مؤثرات تلعب دوراً في دفع الشاعر إلى اكتشاف الميل
لديه إلى الشعر والفن بعامة. ما هي المؤثرات الأولى التي دفعت عبد الباسط أبو بكر محمد إلى كتابة الشعر
وإلى اكتشاف صوته الشعري؟
عبد الباسط: في البداية كنت قارئاً جيداً، إذا جاز لي التعبير أن أقول
أني قارئ جيد. كنت مهتماً
بالكتاب بالدرجة الأولى وكنت أقرأ بشكل جيد. بدأت بقراءة التاريخ. استهوتني القراءة الدينية في فترة ما وتجاوزتها. فيها الكثير من التناقضات. دخلت إلى التاريخ لأن للتاريخ باباً سحرياً. وفي فترة ما، فكرت أن اتخصص في التاريخ. اتجهت بعدها إلى القراءات الأدبية. كانت المناهج المتوفرة تتضمن نماذج روائية وقصصية، على
الرغم من قصور المناهج الدراسية العربية في التعريف بالأدب العربي الحديث بشكل عام. ولكن أذكر أني بدأت القراءة في منتصف الثمانينات وكنت طفلاً
حينها. كانت مكتبة
الوالد مفتوحة على تنوع بسيط ولم تكن مكتبة كبيرة. لم يكن فيها الكتب الأدبية مثلاً أو المجلات الثقافية. كانت فيها بعض المجموعات القصصية القديمة، وما اصطلح
عليه نظرات وعبرات، مثل مجموعة طه حسين (على هامش السيرة) و ( العبقريات ) وهذه الكتب الأدبية المتوفرة في
كل مكتبة عربية ووفرتها المناهج
الدراسية العربية عبر مختاراتها الأدبية. وانتقل الهمّ إلى قراءة الشعر العربي الذي وفرته المناهج بعموده المعروف. وبشكل عام، كان يستهويني الإيقاع الرنان في قصائد العرب. أتذكر قصائد الأعشى وامرئ القيس والمهلهل وبن أبي ربيعة
والنابغة الذبياني، وديوان المتنبي وأبي فراس الحمداني وجرير والبحتري وأبي تمام،
لا تفارقني هذه الدواوين وحتى إن سافرت. في مرحلة لاحقة، انتقلت إلى قراءة إلى محمود درويش وبدر شاكر السياب
وغيرهما. يعني تغيرت. إذاً، كانت البداية أني كنت قارئاً جيداً ومهتماً. كنت طفلاً وخصصت من مصروف جيبي لأشتري به المجلات الثقافية. بدأت بشراء مجلة الناقد بوقت مبكر، لم أكن قد أكملت بداية الثانوية في ذلك
الوقت. نصحني أحدهم
وقال لي: اشتر مجلة
الناقد، إذا لم تفهمها الآن فإنك ستفهمها مستقبلاً. كان سعرها بسيطاً جداً ولكنه كان مبلغاً بالنسبة إلى
طالب في ذلك الوقت في نهاية الشهادة الإعدادية.
أسامة: بلا شك.
عبد الباسط: كان ثمنها دينارين ليبيين في ذلك الوقت ولكنها كانت
متوفرة في المكتبات. حيث كانت
المكتبات تحقق نوعاً من الوفرة لهذه المجلة. ولهذه اللحظة، لا زالت لدي أعداد مجلة الناقد. وأكملت لاحقاً أغلب المجموعة. اشتريت ما ينقصني منها لاحقاً. وهي من فتحني على قراءة الأدب الحديث غير المتوفر في
المناهج. هذه نقطة
جديرة بالنقاش.
أسامة: هذا غريب. فهو وضع عربي عام. قرأت منذ فترة أنه في مصر مثلاً لا يُدرس الأدب الحديث في المدارس.
عبد الباسط: لا يُدرس الأدب الحديث.
أسامة: وفي سوريا أيضاً، لا يدرس الطلاب الأدب الحديث حتى في
الجامعات. ماذا عن
ليبيا؟ هل الوضع ذاته هناك؟
عبد الباسط: الأمر نفسه. تم التواصل معي بحكم أني بدأت أكتب الشعر. وأغلب من يأتي من الأكاديميين كان يتوجه إلي على أساس أن
تجربتي هي التفعيلة. فأنا كتبت
التفعيلة وكتبت العمود في بداياتي. واتجهت بعدها إلى قصيدة النثر في منحنى معين من التجربة. وكان يسألني طلبة الماجيستير أو الدكتوراه هل هذه
القصائد الأولى؟ كنت أضع أمامهم الإشارة المنطقية أنني أكتب قصيدة النثر. فيقولون إنهم يبحثون عن قصيدة العمود الليبية أو قصيدة
التفعيلة. وهذا موضوع
شائك جداً. فأغلب من كتب
عن قصيدة التفعيلة تطرقوا إلى ذلك بشكل جامد جداً. للأسف، الطلاب الليبيون الذين درسوا النماذج الشعرية
الليبية التي تكتب شعر التفعيلة تطرقوا لمناهج البحث التقليدية وبشكل ممل من أجل
أن ينجح في الامتحان ويتجاوز هذه النقطة في دراسته ويحصل على شهادة الماجستير. فلم يكن مهموماً بإيضاح الصوت والمؤثرات وبأعماق التجربة
أثناء دراسة التجربة. وفي فترة
لاحقة، عرضت على أساتذة الجامعة، الذين أصبحوا زملاء ورفاق دراسة، أن يقوموا بدراسة
قصيدة النثر الليبية، فأدرجوا قصيدة النثر على أنها مثال للفوضى القيم والتخريب. يجوز أنها تُذكر، وتُذكر النماذج التي أفسدت هذا الشعر
وهناك الكثير من النماذج. للأسف، لم تُدرس الحالة ولم تُدرّس قصائد التجربة الشعرية الحديثة إلى هذه
اللحظة في ليبيا بشكل عام.
أسامة: للأسف. هل واجهت في البداية صعوبات في النشر؟ ما الموقف النقدي
الأول من نصوصك؟
عبد الباسط: كان الموقف النقدي تقليدياً طبعاً. بعض المحيطين التقليديين. أنا كنت لا أعرف. كنت أحمل لهم بضاعة غير بضاعتهم. أنا أكتب قصيدة نثر وهم يكتبون قصائد
التفعيلة والعمود أي كانت صدمة
بالنسبة إلي. عند بداية
قراءة قصيدة النثر، كانت صدمة. القصيدة، كما قال عنها الشاعر اللبناني ( شوقي بزيع ) : ( إنها قصيدة عارية ) هي قصيدة
عالية النغم تحمل توهجها الفكري وترابط الألفاظ وصدمة المفارقة وصدمة الاشتغال على التفاصيل اليومية أي في مراحل تطورها اللاحق. فهي قصيدة يمكن أن تجد النص وتقرأه، ويمكن إن كان كريماً
معك أن يقول لك إنها خاطرة جيدة أو خاطرة ممتازة ولا يقول لك قصيدة، في فترات. تعرض أغلب الناس إلى هذه النصوص. ولكن كان هناك بعض الأصوات الأخرى التي تكتب بشكل حرفي. وكانت تحتسب على التجربة الشعرية الحديثة. وكانوا شعراء مستواهم الشعري جيد ومستقر ومنهم الأستاذ
الشاعر مفتاح العماري، وله تجربة شعرية راقية وتجاوز عدد دواوينه إلى هذه اللحظة
عشرين ديواناً تقريباً وأغلبها موجود لدي. إنها تجربة ناضجة، اشتغل على الفكرة والألفاظ والموروث. ولها مؤثراتها العربية ومؤثراتها الليبية، تجربة راقية
جداً. صُدمت في
اللحظة الأولى برأي الناقد التقليدي أو المتلقي التقليدي، من ثم وجدت نصوصي مكانتها ، فمثلما هناك متلق تقليدي هناك متلق حداثي
منفتح.
أسامة: ممتاز.
عبد الباسط: ووجدت هذه النصوص (مكانتها).
أنا مدين للذين أخذوا بيدي في ذلك
الحين. فقد أقنعوني
بهذا الشعر في تلك اللحظة. هناك من أخذ بيدي وغادر.
أسامة: جميل
عبد الباسط: كان هناك حالات نكوص في التجربة أو كفر بالشعر كقيمة
جدلية أو كقيمة يمكنها أن تغير. فتوقفوا مبكراً على الرغم من أن تجربتهم كانت توحي بالتوهج في حينها. ولكنهم الآن منبهرون بتجربتهم. وقد توقفوا ولا أدري ما هو السبب. فالإنسان مجموعة من المواقف والرؤى. وأحياناً تأتيك رؤية تقنعك بعدم جدوى كتابة الشعر من
أساسه.
أسامة: بلا شك. سننتقل إلى نقطة تتعلق بهذا الموضوع ألا وهي النقد. فبالإضافة إلى كونك شاعراً، فأنت تمارس النقد الأدبي
وصدر لك كتاب في القاهرة بعنوان اليد الواحدة.
عبد الباسط: اليد الواحدة.
أسامة: ويحتوي على عدد من الدراسات النقدية وتتناول فيها تجربة
شعراء شباب من ليبيا.
ما المميز لدى
هؤلاء الشعراء؟ لماذا كتبت عنهم؟
عبد الباسط: هذا سؤال حساس وجميل في الوقت ذاته ومتميز كذلك. والسبب هو بالطبع أن كتاب اليد الواحدة له قصة. عندما بدأنا نكتب، كانت التجربة متشكلة في نهاية
التسعينات وتحديداً في بداية الألفية. كانت المنابر متاحة في ذلك الوقت مع انفتاح الإنترنت ودخولها إلى ليبيا بنهاية
التسعينات. وأصبحت شائعة
إلى درجة ما داخل مقاهي الإنترنت. فأتجه إليها أولئك الشباب. وكان هناك منابر ثقافية مثل الصحف اليومية السياسية وكانت تخصص جوانباً
وأبواباً للأنشطة الثقافية. وكان لها فضل. وكتبنا في
فترة من الفترات في هذه الصحف. اتجه الشباب إلى الكتابة عبر مواقع شبكة الإنترنت. ووجدوا نصوصهم في ذلك الوقت على الرغم من أن التجربة
كانت بسيطة جداً في بداية عام 2001.
وكانت نصوصهم متميزة وتعرضت لمؤثرات
وهناك أشخاص قاموا برعايتها مثل رواد شعراء قصيدة النثر في ليبيا. وقاموا برعاية هذه البذور الشعرية، إن جاز التعبير. فبدأت الكتابة. لم يلتفت الناقد الليبي إلى هذه الأصناف على الرغم من أن أصداءها العربية
كانت جيدة إن لم نقل جيدة جداً. كانت تنشر نصوصهم في العرب اللندنية، والزمان، والعرب الكويتية، ونشروا في
الصحف التي كان تنشر فيها النخبة في ذلك الوقت، في مجلات وصحف معروفة وكان من يشرف
على الملف الثقافي فيها كان شخصية ثقافية مرموقة. فلم يتجه الناقد الليبي إلى ذلك وقد يكون ذلك بسبب قصور
الحركة النقدية العام برعاية الإبداع وأن تقف خلفه. الحركة النقدية مقصرة دائماً لدرجة أنك تجد عدد الشعراء
أكثر من النقاد.
أسامة: صحيح.
عبد الباسط: وكانت لحظة فارقة بالنسبة إلى التجربة. أبرزت (المجلات) نقاداً منهم. أي أبرزت نقادا من الشعراء بحد ذاتهم للتعريف بهذه التجربة. كانت القراءات بسيطة جداً وتعريفية بالشعراء. لم تكن نقداً أكاديميا أو منهجياً. بدأت أغلب القراءات على نصوص وبعد أن صدرت هذه النصوص في
دواوين تمت بلورة هذه القراءات في دواوين التي كانت تشمل مجموعة القصائد السابقة
قيد الدراسة. بدأت الفكرة
عام 2003
تحديداً، وكانت الفكرة وليدة النقاش بيني وبين الشاعر الليبي، (
عبدالدائم أكواص ) المقيم حالياً في لندن. وهو شخصية شعرية راقية وجميلة. فكان أن بدأنا بالنقاش. وأطلقت عليه (اليد الواحدة
( أجل تعبير معين. اليد الواحدة لا تحدث صوتاً. نحن في ليبيا نقول اليد الواحدة لا تصفق.
أسامة: صحيح، طبعاً.
عبد الباسط: فهي تحتاج إلى يدها الأخرى. فالأدب والإبداع الليبي أو إبداع الشباب هو يد واحدة
وتحتاج إلى يد النقد الأخرى ليصل صوتها.
أسامة: حلو، حلو.
عبد الباسط: فسميت الكتاب اليد الواحدة ونُشر في عام 2003. كان المسؤول عن الملف الثقافي في صحيفة العرب السيد حسين
الحسين. وكان مهتماً
ومتجاوباً معنا إلى درجة كبيرة. ووجدت نصوصي الأولى الطريق مفتوحاً لها وكانت صفحات الملف مفتوحة. كان هناك يومياً نصاً لشاعر ليبي. لا يخلو العدد من ملف سواء قصة أو قراءة أو نص شعري. وهذه هي قصة اليد الواحدة. أنجز نهاية عام 2008، وبقي في الأدراج. في منتصف عام 2015 في القاهرة طبعته صحيفة المستقل، وهي صحيفة ليبية تصدر
في القاهرة.
أسامة: بما أنك متابع للمشهد الشعري والأدبي في ليبيا، أود أن
أسألك عن موقف الشعراء من التغييرات التي جرت في ليبيا. هل كانوا مجمعين على التغيير أم أن هناك من اعترض على
الكيفية التي جرت بها الأمور؟
عبد الباسط: البعض.
أسامة: ثم لدي سؤال آخر متعلق بهذا السؤال. ما تأثير هذه الأحداث في المشهد الأدبي؟ وما الذي تغير
لدى جيلكم بالتحديد مع التغير الذي حصل؟
عبد الباسط: كان التغيير صادماً جداً للجميع على مستوى القطر الليبي. لأن نظام القذافي كان متجذراً ومتماسكاً، إن جاز
التعبير، ومسيطراً على الأمور. كان يملك الأجهزة الأمنية، والآن نشكو من غياب الأجهزة الأمنية في هذا
النوع من الحالات. وأصبحت قناعة
الناس: اسرق من
المؤسسة العامة أو الجهة العامة ولا تتكلم عن معمر القذافي. فلا مشكلة إن سرقت، فهي ستنتهي، قد تُحبس سنة أو سنتين
ثم تخرج وتستفيد من المال. أما إذا ذكرت معمر بسوء فستكون مشكلة المشاكل. وهنا كانت الثورة قد بدأت. وحتى من تنبأ بها وتنبأ بالضوء في نهاية النفق، عندما جاءت الثورة وقف موقف المتفرج. وافتقدت بعض التجارب إلى مادة الرمز، الرمز الذي يناكف
النظام. فقد عمل بعض الشعراء
على الرمز الذي يناكف النظام.
أسامة: أي في البداية؟
عبد الباسط: لا، أثناء فترة القذافي. كانوا يشتغلون على فكرة الرمز وقولبته في قصائد. ثم جاء التغيير وانكشفت الرموز فلم يعد هناك رمز حيث
سقطت الرموز. وكان عليهم أن
يبحثوا عن مواضيع أخرى في الحياة: الثورة، التغيير، الخ. فلم يجدوا ساحتهم وهناك من توقف نهائياً، للأسف. هناك تجارب توقفت نهائياً ولم تضف أي جديد. ويقول البعض: أنا مبهور من التغيير. وهناك القليل منهم من اعترف. كانوا يقولون: كنتُ أكتب ثم توقفنا لأن الرموز والظروف التي نكتب في ظلها وما تعودنا عليه
لمدة 40 سنة تغير .. نكتب في طريقة معينة ونناكف في النظام بطريقة معينة. فعندما جاءت الثورة انكشفت الرموز ، وتوقف البعض منهم عن
التجربة. ولكن الثورة
في السنة الأولى أفرزت شعراءها الجدد وهذه ميزة جيدة. إذا كان هناك حلقات تجعلنا نتفاءل دائماً إن كان هناك أشخاص وأجيال قادمة تكتب
فالتجربة الشعرية بخير. أي أنني أعول دائماً على الأجيال الجديدة. ونحن للأسف، في بعض المناشط الثقافية تعطى الفرصة لشاعر
كبير، دواوينه موجودة وقراؤه كثر. ويمنح الشاعر المبتدئ، الذي هو بأمس الحاجة إلى التعريف، خمس دقائق في هذا
المنشط.
أسامة: أكيد، أكيد.
عبد الباسط: فالأمور معكوسة. فالمفروض أن يستدعى الشاب لأنه تجربة وليدة بينما تمنح القامة الثقافية، حضوراً
شرفياً. فكتبه موجودة والساحات والمعارض
واللقاءات موجودة بالنسبة إليه. يدعى إلى أكبر معارض الكتب. وتقام له الأمسيات. ومن المفروض عليه في بعض المراسم المشتركة أن يتنازل عن
طيب خاطر لهذا الشبل الناشئ والبرعم الصغير، ويتعهده بالعناية. فكانت هناك مشكلة. في أغلب المناشط الثقافية التي اهتممتُ بها، كنت أعول
على أن أمنح الوقت الكافي، قبل خروجي من ليبيا فأنا الآن مستقر في تركيا لاستكمال
الدكتوراه، كان آخر نشاط قبل أن أخرج هو أمسية ثقافية لشعراء شباب في مدينة البيضاء والتي هي مدينتي. وختمت فيها نشاطي الثقافي. وقلت لنفسي هم أصوات ناشئة وحضورهم جيد على الشبكة
ومتواصلون عبر الفيسبوك بشكل جيد ونصوصهم لديها متلق عربي. فتبنينا لهم أمسية. كان لديهم ساعتان من الوقت تقريباً، وأدوا نصوصهم بشكل
جميل. سمعهم الناس
وكانوا جيدين. تحتاج بعض هذه
النصوص إلى الاهتمام. بعد الثورة،
أصبح لدى الجميع مأزق. لمن كان يكتب
قبل الثورة وتوقف. وأنا متأكد
أنه يفكر كيف يبدأ بالكتابة ويشكل هذا (المزيج الخام) الغير متشكل في
كيان معين وهناك من استوعب التغيير بسرعة وانطلق بالكتابة. الحالتان موجودتان في المشهد الشعري الليبي. وينطبق هذا على أغلب الأصناف الأدبية. فهناك نفس الأفكار بالنسبة إلى القصة.
أسامة: كما تعلم أنه في البداية شنّ الروائي ابراهيم الكوني
نقداً لاذعاً على الربيع العربي وخاصة في ليبيا.
عبد الباسط: في كتاب مذكراته “عدوس السرى” كان أوضح. وأنا قرأت الأجزاء الثلاثة، كانت هناك نظرة للتغيير الانفعالي، والثورة
ليس لديها من يقودها. تكلم عن
التغيير وأنا أحترم رأيه. صوّرت بعض الآراء المتسرعة في ذلك الوقت الثورة على أنها ستفتح أبواب
الجنان. وأن معمر
القذافي كان يقف حجر عثرة أمام الليبيين وعندما سيموت ستُفتح أبواب الجنة ويرتفع
مستوى الدخل ومستوى معيشتهم. أما الآن يقفون في طوابير من أجل الخبز، وطوابير على محطات البنزين، ويقفون
في طوابير أمام المستشفيات. فالواضح أن أبواب الجنة لم تفتح. وكفر بعضهم بالثورة كثيراً، ليس الشعراء بل الناس البسطاء. كانوا يتخيلون أن هذه الثورة في لحظاتها الانفعالية هي
كذا وكذا. لم يتوقعوا
أنها ستفتح أبواب التنوع. والتنوع في الشخصية الليبية تنوع حاد نوعاً ما، وعنصر العناد متركب، ومع
توفر السلاح بشكل كبير. فأصبح التغيير إن لم أقنعك برأيي فسأقنعك بالإرهاب. وتراهن جميع الأطراف المتصارعة الآن على أني إن لم أقنعك
بشكل سياسي أو ديبلوماسي فسأقنعك بالسلاح.
أسامة: للأسف، للأسف.
عبد الباسط:
أفرض رأيي عليك بالسلاح، للأسف.
بغض النظر عن حركة الجيش التي تقوم
الآن في بنغازي. حيث يهتم الجيش بتطهير بنغازي من وجود داعش ووجود التيارات
الإرهابية. فهم شباب معروفون من عامة الشعب وهمهم الوطن بالدرجة الأولى.
تشتت الوطن بعد الثورة. تصدر
الثوار ولم تكن لديهم القدرة على قيادة الدولة، فحدثت الكثير من المشاكل . نسأل الله أن
يحفظ البلاد والعباد.
أسامة: إذا، فالمستقبل معتم في ليبيا.
عبد الباسط: معتم نوعاً ما. ليس هناك أرضية صلبة ليقف عليها الشخص ليتكلم.
أسامة: للأسف.
عبد الباسط: أن تبني عليها مجموعة تطورات. طبعاً ليبيا قطر شاسع جداً. المسافة الفاصلة بين شرقه وغربه حوالي 2,000 كلم.
أسامة: أود أن أنتقل معك للحديث عن فن الشعر. لكل شاعر صوته الخاص وأسلوبه المتفرد عن الشعراء الآخرين. أي بمعنى، هناك هوية شعرية مختلفة لدى كل شاعر. وقيمة الفن الجوهرية هي في الاختلاف. وهذا ما نلاحظه في تعدد الأساليب والرؤى لدى الشعراء في
أدب من آداب البلدان، على سبيل المثال. كيف تنظر إلى هذه النقطة؟
عبد الباسط: يمكن أن نسقط هذا على التجربة الشعرية الليبية.
فالتجربة الشعرية الليبية في
بداياتها، إن جاز التعبير، كان انتماء أصواتها عربياً أي لم يكن لها انتماء محلي
وهذه هي المشكلة. وهي مشكلة كبيرة جداً. فلم يكن هناك الشاعر النجم الملهم والذي يكتب بحرفية
عالية وله أدواته وما إلى ذلك. لا، فالشاعر الليبي كان دائماً في كل الأوقات وفي كل
الأحيان وإلى هذه اللحظة، لا يوجد الشاعر الملهم الذي يكتب بشكل يومي ومتفرد ومخلص
لتجربته إخلاصاً كاملاً. جعل هذا الأمر بعض الأصوات تتأثر خلال جيل الستينات
والسبعينات بالمد القومي وتستورد وتتأثر ببدر شاكر السياب أو البياتي أو إلى درجة
معينة نزار قباني حتى في الشعر السياسي. والبعض ممن دخل إلى الشعر استهواه مظفر النواب.
كانت الرموز
والمؤثرات الموجودة محلياً هي مؤثرات مشرقية بامتياز، لا نريد أن نقول تبعية الغرب العربي
إلى الشرقي. كانت موجودة حتى عندما بدأت قصيدة النثر بالتشكل في بداية
السبعينات. أعطت بعض الرموز البسيطة التجربة وهي الآن تكتب. نذكر منهم مثلاً الأستاذ الدكتور عاشور الطويبي
وهو شاعر مقيم خارج الوطن الآن. وهي تجربة متمكنة بتنوعها وبقصائدها وبتشكلها، وله طابعه
ونسقه الخاص. إنه شاعر متميز وقامة كبيرة. وهو مترجم، لديه ترجمات. فأفخم ترجمة عربية لشعر ( الهايكو ) تقريباً،
حسب ما قرأت، كانت ترجمة عاشور الطويبي إنه شاعر متمكن جداً. يملك أدواته ويكتب قصيدة نثر بحرفية عالية جداً.
يملك مؤثراته ولكنه خلق نوعاً من
التميز في سياق الكيان الليبي. مفتاح العماري كشاعر قصيدة نثر ينطبق عليه الكلام ذاته. فله خصوصيته وله أدواته ودواوينه ما شاء الله، يكتب
بحرفية عالية. أعتبرهما رمزين مهمين جداً. وهناك أصوات أخرى. وهناك من أخلص
وكانت تجربته مبشرة ومن ثم انتكست. فمثلاً، الشاعر ( عمر الكدي )، فهو شاعر متمكن ومتميز ويمتلك أدواته وكانت تجربته جميلة.
عندما هاجر من ليبيا وخرج كلاجئ
سياسي إلى هولندا، كتب قصيدة كانت آخر قصيدة له وسماها (رحلة
السلمون
الأخيرة) وترك بعدها
كتابة الشعر ليتجه إلى كتابة الرواية. وكان ذلك صادماً للأسف. فقد تكلمت معه بعد الثورة على الفيس بوك وكان لديه ما
يشغله، فقلت له: أنت شاعر ذو تجربة مبشرة، فلماذا تركت؟ فقال: أنا عندما هاجرت تركت الشعر في ليبيا وحملت معي الرواية.
وكان قد ذكرها في أحد الحوارات.
صدر له ديوان أخير عن دار المستقل،
وهي نفس الدار التي أصدرت لي اليد الواحدة، قصيدة طويلة جداً أثناء المنفى، وهي جميلة جداً
وما زالت قصيدته تحتفظ بتوهجها. إلا أنها خسرت الكثير في فترة الانتظار.
فقد خرج عام 1999
وعاد إلى ليبيا عام 2014. فقد كان خارج الوطن بسبب ظروف العمل.
وهي فترة طويلة جداً، حوالي 15
أو 16 سنة. فإن أخلص للتجربة الشعرية لفترة 15
أو 16 سنة سنكون أمام تجربة متكاملة. واتجه إلى كتابة المقالة وكتابة القصة.
أسامة: ممتاز.
عبد
الباسط: في المقابل ، بالنسبة إلى القصيدة العمودية
أو التفعيلة نجد أن المؤثرات ... هناك شعراء كبار كتبوا ويكتبون
التفعيلة أو العمود مثل حسن السوسي وراشد الزبير، ويكتب الأستاذ ( عبد الحميد بطاو
) في التفعيلة وتجربته متميزة ...إلا أن أغلب المؤثرات لم تجد لها صوتها
الخاص، وهذه مشكلة كبيرة جداً. أنا أحمل بعض الآراء. وحتى
لو قلنا إن هناك تجربة وكتب عليها الكثير وهو
الأستاذ ( محمد الشلطامي
) والذي كان صوتاً
متميزاً، والذي جعله متميزاً هو تجربته في السجن. فقد
تم سجنه لمدة 15 أو 13 سنة
من عام 1973 إلى عام 1982. فعندما تقرأ قصيدته تجد مفردات مثل القضبان وظلمة السجن ووجه السجّان وما إلى ذلك. إنها
تجربة صميمة للشاعر ( الشلطامي )
وهي تجربة جميلة جداً وشفافة وبسيطة
ومخلصة. سطرت جزءاً
كبيراً من حياته والتي هي 15 عاماً، تشكلت داخل السجن. التجربة جميلة جداً. وصوت له طعمه الخاص. إلا أنه تأخر بسبب السجن، فمن المفروض أن يكون عدد الدواوين أكبر. وقد توفي عام 2009 تقريباً.
أسامة: بما أنك تتحدث عن السياق الليبي، أود أن أسألك سؤالاً
حول هذا الموضوع. قلت مرة أنك
ابن شرعي لتجربة الشعر الليبي. لماذا قلت هذا؟ ولماذا استنكر البعض قولك كما ذكرت في حوار أُجري معك منذ
فترة؟
عبد الباسط: لا يعتبر بعض الأشخاص أن التجربة الليبية هي تجربة متكاملة. وأعتبر نفسي ابناً شرعياً لهذه التجربة ولو كان جزءاً متطرفاً. لقد قرأت لأغلب الشعراء الليبيين وهذا يجعلني ابناً شرعياً لهذه التجربة
على الرغم من تفرقها وتشتتها. فقد قرأت أغلب شعر التفعيلة ورموزها الشعرية. قرأت العمودي أولاً، قرأت للرواد في مجال العمودي. وقرأت مَن كتب التفعيلة في ذلك الحين. أغلب الدواوين التي صدرت لشعراء ليبيين موجودة لدي
وقرأتها في فترة ما. وشكلت رأياً
في ذلك الوقت، حيث لم أكن أستطيع أن أصرح به. ورأيي أن التجربة الليبية كان انتماؤها دائماً إلى الخارج. تقول بعض الدراسات النقدية أن هناك من استورد حتى الرموز. فنحن كليبيين مسلمون، المسيح والصليب وما إلى ذلك غير
موجودين في موروثنا لا الأسطوري ولا الشعبي. استوردوا القصيدة كمؤثرات من التجربة اللبنانية أو
العراقية أو تجربة البياتي مثلاً أو بدر شاكر السياب أو خليل حاوي أو التجارب
القائمة الأخرى. استوردوا
رموزهم بالكامل. لم يستوردوا
الأدوات إنما استوردوا الرموز أنفسها. وهذه بحد ذاتها مشكلة. ولكن أنا أعتبر نفسي ابناً شرعياً لهذه التجربة لأني قرأت لأغلب الشعراء
فتكوّنت لدي أرضية لهذه التجربة. أرضية أنطلق منها في نقدي، إذا جاز لي أن أنقدها، أو أكتب عنها. واتجه بعض الشباب إلى قراءة الشعراء العرب. فبدل أن نقرأ للشاعر فلان الفلاني الليبي لم لا نقرأه في نسخته العراقية. فنقرأ بدر الشاكر السياب مثلاً أو نقرأ البياتي، فنقرأ
الأصل. وهذه للأسف
بحد ذاتها مشكلة كبيرة جداً. أن لا يبدأ أحد بصوته الخاص من خلال تجربته. كلها تبدأ متأخرة. وفي فترة معينة من الفترات، عليك أن تتأمل نفسك. هل أنت تكتب الآخر؟ إن كنت تكتب الآخر فتوقف. وإن كنت تريد أن تخلق صوتك الخاص فتوكل واخلق صوتك
الخاص، أي ابدأ واخلق صوتك الخاص. وهذا هو السؤال المرجعي وليس كتابة القصائد فقط أو كتابة الكم الأكبر من
القصائد. فبعض الشعراء
مضى عليهم سنتان أو ثلاث سنوات لم يكتبوا نصاً شعرياً ويُحسبون على التجربة. الروائي (ابراهيم الكوني ) في كتابه (عدوس السرى) ينصح المبدع
بالكتابة اليومية. على المبدع أن
يتشكل من خلال الكتابة اليومية. الكتابة اليومية هي في الوقت ذاته مقامرة أو مراهنة غريبة. هل تتآكل الأفكار من خلال الكتابة اليومية؟
أسامة: هذا صحيح.
عبد الباسط: تحتاج إلى قدر كبير من التأمل وسعة الفكر والمطالعات
وتحتاج إلى مجموعة كبيرة من الروافد.
أسامة: لاحظت لدى قراءة دواوينك أن لديك اهتماماً بالمكان في
شعرك. ولاحظت هذا في
أكثر من نص وخصوصاً في قصيدتك الجميلة عن بنغازي. هل يمكن أن تحدثنا عن علاقتك مع المكان؟ يمكنك أن تجيبنا
بقراءة القصيدة هذه، إذا شئت.
عبد
الباسط: القصيدة هي من
الديوان الأول بالطبع. وكتبت في عام2000 وكانت بداية تشكلي مع بنغازي كمكان. تعتبر بنغازي عاصمة الشرق الليبي طبعاً.
أسامة: حلو.
عبد الباسط: وهي مدينة حيوية وتقع على البحر. مدينة جميلة جداً. تفتننا نحن الذين نسكن، إذا جاز التعبير أن نقول نسكن في
الضواحي. فضواحي هذه
المدينة الكبيرة تفتننا. ففيها نوع من الانفتاح وفيها حركة ثقافية جيدة جداً و مكتبات على درجة
عالية من التنوع والسعة، فهي مدينة كبيرة. وقادت الحراك وما تزال تقود الحراك الثقافي إلى هذه
اللحظة. فحراك التغيير
في ليبيا تقوده بنغازي بشكل عام.
أسامة: هل يمكن أن نسمع رأيك بها شعرياً؟
عبد
الباسط: فلنسمع رأيي
في بنغازي.
بنغازي ..
كما تشتهيكَ
بنغازي ..
كما تشتهيها
خطوتكَ ارتكبتْ أول المعاصي
وعيونكَ المُرتبكة عُنوان
هذا الوجوم
مدينة تكبرُ
تُربي أسئلتي على الحذر
وتفتحُ لقصائدي نزق البوح
بنغازي ..
صخبُ البحر اللذيذ
الوجوه المُلتحِفة بالملح
الأشياء تصِلُ الرغبةَ بالعجز
بنغازي ..
أعياني الوقوف على مداخلِ القلب
فتسرب الوجعُ إلى الروح
شهيةٌ من بعيد
عصيةٌ من بعيد
لكنها تُغافلُ العقلَ بما يُتاحُ
من جنون
وتمنحُكَ كلَّ شيء
بنغازي ..
المتأرجحة على سُلّمِ مخاوف
مذاق الخطأ بسطوة الغريزة
بنغازي ..
الحواس المُعطلة في رائحة العطن
والأنفاس التي تخفي شراستها
الخوف المُستيقظ في زحمة الوساوس
خطوةٌ تتوحدُ مع الزلل
وغِيابٌ يذوي كلما اتخذ الحُضور
شكلاً مُباغِتاً
بنغازي ..
الإثم المُتاح
والمؤجل دائماً .
أسامة: حلو، حلو. شكراً لك على قراءة النص.
عبد الباسط: شكراً
يا صديقي.
أسامة: أود أن أسألك عن موضوع
آخر. أنت من
الناشطين شعرياً في الإعلام الاجتماعي. ما هي إيجابيات هذا الإعلام على الصعيد الشعري برأيك؟
عبد الباسط: خلقت شبكات التواصل الاجتماعي نوعاً من الإعلام الجديد. وإلى هذه اللحظة هناك أشخاص في ليبيا يجدون أخبارهم في
شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك أو تويتر أكثر مما يجدونها في القنوات. ونستطيع أن نسقط هذا على التجربة الشعرية أو النشر
الشعري أو الأدبي بشكل عام. أي أن نص المبدع لا يزال طازجاً ، (الطزاجة ) تلاشي المسافة بين لحظة
الكتابة ولحظة النشر. فالبعض ممن
ينشر، ينشر بأخطائه النحوية والأخطاء في التراكيب.
أسامة: بلا شك.
عبد الباسط: أنا أرحب بهذه النصوص بشكل عام. فهي فرحة النص الأول وتجربة النص الأول. وأحياناً تكون لحظة القبض على الفكرة لحظة مجنونة جداً. أنت مبدع وتعرف ذلك.
أسامة: شكراً عزيزي.
عبد الباسط: فأحيانا ترتبك لحظة القبض على الفكرة وتتصرف معها كشخص
محروم من لقاء حبيبته ووجد الفرصة متاحة، فيظهر الارتباك على اللقاء بشكل عام.
أسامة: صحيح.
عبد الباسط: فلا يأخذ شكل اللقاء الأكاديمي الممنهج المدروس المرسوم. إن ارتباك العاشق في لقائه المفاجئ والمبهر للمحبوبة هو
لحظة الإمساك بالفكرة أو الكتابة. وأحياناً بعض نصوص الشعراء الشباب، شعراء من العراق وسوريا ومصر واليمن،
وتجربة اليمن تجربة غنية جداً، هذه تخلق حالة عندهم حالة من الحراك، أو مجموعة
الأفكار وتجعلك تكتب. تستهويك
الفكرة فتكتب. أنا لدي شيء
خاص. في الفترة
الماضية منذ حوالي العام، أكتب لنفسي. أكتب على الفيس بوك وأفرّغ جرعة السم التي يحملها المبدع. أفرغها الإفراغ الأول وأختار حالة النشر لنفسي فقط ، على
الفيس بوك مثلاً
أسامة: فعلاً. قرأت بعض النصوص الأخيرة لك، وفعلاً أعجبتني. كانت ممتعة.
عبد الباسط: تتشكل هذه النصوص عبر عشرة أو خمسة أو ثلاثة أشهر أو شهر
واحد. أحيانا أفرغ
النص على الفيس بوك، أراه أمامي وأقرأه أنا فقط. بمعنى أختار خيار النشر أنا فقط.
أسامة: حلو.
عبد الباسط: ويظل هذا الحال قائماً. أحياناً، آخذ النص وأعطيه لشخص، مثلاً صديق أو رفيق أو
زميل. يقرأ النص
ويقول لي أنت انفعلت في الفكرة، أو ضاعت منك الفكرة، بداية الفكرة كانت جميلة إلا
أن...، أنا مدين
للكثيرين. إذا كانت
تجربتي مكتملة بهذا الشكل وإذا كان فيها مقدار من الجمالية والانسجام فأنا مدين
جداً للذين يقرؤون نصوصي ويقولون لي: هنا نضع وهنا لا نضع، وكثرة الآراء تعطي للنص قاعدة عريضة جداً.
أسامة: بلا شك.
عبد الباسط: أحيانا، بعد أن أقوم بنشره، يأتيني شخص ويدخل على الخاص
ويقول لي: أنت في هذا
النص كذا وكذا إلا أنك في تلك الفقرة هناك انفعال معين أو أن المعنى الموضوع في
هذه الكلمة يقصد به شيئاً معيناً في القاموس أما أنت وضعتها بشكل مختلف. استفدت وتطورت أدواتي من خلال نشري في الفيس بوك. أنا دخلت إلى الشبكة في نهاية عام 2009 أنشر بشكل شبه
يومي على الفيس بوك. وتشكلتُ عبر
الجمهور المتلقي. هناك المتلقي
العادي الذي يبهرك أحياناً بانتقاد معين داخل النص الشعري، وهناك المتلقي المهتم،
وهناك الصديق القريب من التجربة، وهناك المتلقي الأكاديمي المهتم. التجربة مفيدة جداً. أنا أعرّف شبكة الفيس بوك أولاً على المستوى التعارف لأن
هناك مجموعة من النماذج في العراق وهي نماذج ثقافية شعرية شبابية، وفي سوريا
ولبنان واليمن. وفي اليمن،
هناك جيل يكتب في قصيدة النثر على مستوى عال من
الريادة. هناك أصوات شعرية، لا أريد ذكر أسمائها، تربطني بها
علاقة يومية عن طريق الشبكة. يكتب القصيدة في نص ناضج جداً وحديث ومتميز وفيها الكثير من الالتقاطات الجميلة ، ويحتوي على نوع من المفارقة ويعتبر ناضجاً جداً على الرغم من أنه في حالة
كتابته الأولى. فيمكن اعتبار
الفيس بوك أنه قادر على تشكيل المراحل. بما أن هناك تجاذبات سياسية وهناك تجاذبات إعلامية وأنا أقول أن هناك
حراكاً ثقافياً على الفيس بوك إذا تم توظيفه بشكل معين عند المبدع فمن الممكن أن
يخدم تجربته وإذا تم توظيفه بشكل سيء فمن الممكن أن يمتص جزءاً كبيراً من هذه
التجربة وتذهب هدراً.
أسامة: قلت مرة في حوار أجري معك إن أهم إنجاز أنتجه الأدب بشكل
عام و الشعر، بشكل خاص هو وفاؤه لصوت الذات البسيطة مقابل أصوات الهتاف الهادرة. ما الذي قصدته هنا؟ هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن ذلك؟
عبد الباسط: في فترة من الفترات الشعرية العربية أو الإبداع العربي
بشكل عام، كانت الحالة قائمة. فقد كانت هناك حركة الجموع الهادرة المنفعلة وراء شعار معين أو اتجاه سياسي
معين أو شخصية سياسية معينة. أنا أرى شاعر القبيلة -وقد يكون رأيي
قديماً ولكني أتبناه بقوة- قد انتهى ، والشعراء الذين يكتبون قصائد المديح
فقد اندثروا، المديح الآن لا يناسب للشاعر الحديث
في أحد الحوارات قلت من المستحيل أن يكون الشاعر مداحاً في الشعر الحديث. لأن الغرض الشعري للمدح أندثر في الوقت
الحالي في القصيدة الحديثة. قصيدة النثر لا يلائمها ولا يناسبها أن تكون كذلك. الهجاء مثلاً، كغرض من أغراض الشعر لديه ،فالهموم الشعرية تغيرت
، من الممكن
أن الأغراض الأخرى متوفرة بدرجة من الدرجات ، قصيدة النثر أو الشعر الحديث بشكل
عام إخلاصه للكاتب المبدع ولهموم المبدع وللصوت المبدع لأن هذا المبدع هو ابن
البيئة المنتهكة المسحوقة، فأنت عندما تكتب عن نفسك، كشخص شاعر، وتكتب عن همومك
اليومية فأنت تعبر عن المجتمع أو تعبر عن 90% من المجتمع دون أن تشعر. هناك شاعر ليبي اسمه ( مفتاح العماري ) أخذ بيدي وهو من طبع لي
ديوان (في متناول القلب)،. وهو شخص راقٍ جداً وحساس وجميل ويكتب في قصيدة النثر. كتب قصيدة تعتبر مفتتحاً بالنسبة لنا وتعتبر في الشعر
الليبي هي فاتحة الكتابة الشعرية الحديثة. اسم القصيدة: ( رجل بأسره يمشي
وحيداً) . والقصيدة هي
رجل تحيط به بأسره مجموعة الهموم المحيطة به. بعض مقاطع القصيدة لو سمحت يا أستاذ أسامة.
أسامة: تفضل.
عبد
الباسط:
بدأت أتعب من أطفالي
وهم يكبرون دون ألعاب أو حلوى
بدأت أتعب من مؤامرات المياه
في أحيائنا الرثة مالحة وتهرب
من زوجتي وهي توقظني كل صباح
بخيالها الواثق
قم يا عزيزي، طلع الصباح
بدأت أتعب.
........................
بهذا الشكل يكتب ( العماري ) نصه المغاير ( رجلٌ بأسره يمشي وحيداً ) وينشر
حالاته اليومية. أظن أنك تتفق معي أستاذ أسامة.
أسامة: بلا شك.
عبد الباسط: القصيدة هنا لا تعني الشاعر. فمؤامرات المياه فعلاً في الأحياء تخص الجميع.
أسامة: طبعاً، بلا شك.
عبد الباسط: والأطفال يكبرون دون ألعاب أو حلوى تخص الجميع. ولم تعن هنا الشاعر بحد ذاته. كتابته على ذاته المنتهكة أو المفترَسة سياسياً
واجتماعياً. وأحياناً حتى المشاغل
الاجتماعية تفترس ذات المبدع ولا تجعله مخلصاً لتجربته. هناك نماذج كثيرة ممن طوّع هذه المشاغل في تجاربه. هناك أسماء كثيرة تكتب بجزالة عالية جداً وأصواتها واثقة
جداً ومتمكنة من أدواتها في تجربة الشعر الليبي. ولا أريد أن أذكر أسماء لأنهم كثر، في طرابلس وبنغازي
والبيضاء وطبرق وسبها، هناك تجربة شعرية متفتحة جداً في سبها في الجنوب الليبي،
ويكتبون بشكل جيد جداً.
أسامة: عظيم. ما هو جديدك حالياً؟ هل من مجموعة شعرية قيد الصدور؟
عبد الباسط: هناك مجموعة ستصدر إن شاء الله عن دار الأروقة في
القاهرة. وإن شاء الله
ستحضر المعرض واسمها (
مشارف الآن ). وسبب لنا نشر
هذه المجموعة مشكلة نوعاً ما. هذه المجموعة على جاهزة في صيغتها النهائية. وهي القصائد التي كانت قبل الثورة. في عام 2011
بعد الثورة
كتبت قصيدة نص اعتبرته نصاً غريباً. سميته( ثورة بكبسة زر)، وكأن
الشباب دخلوا عن المواقع وحمّلوا نماذج الثورة، فنزلت الثورة إلى الشوارع. أي تم تحميلها من المواقع أو من العالم الافتراضي وأجروا
لها تنصيب “download".
أسامة: أجل، تنزيل.
عبد الباسط: نعم، تنزيل. نزلت على الواقع. وكأن الثورة أحدثتها نقلة زر. كان الحراك على مواقع التواصل الاجتماعي قبل الثورة حراكاً رهيباً جداً. فقاد التغيير وقاد موعد الثورة وحدد موعد الثورة والذي
كان 17 فبراير، وكان
أهم شيء هو الموعد. كانت الثورة
قاحلة وكان هناك سجال بين المعسكرين الموجودين في ليبيا. فقبل الثورة بشهر أو بأيام، كان هناك سجال بين المعارضين
والمؤيدين. فكتبت النص
واعتبرت أن ما كتب قبلها يجب أن يصدر في ديوان كامل وأقفلت تلك المرحلة بديواني ( مشارف الآن ) . فالديوان الآن في القاهرة ، وسيصدر وسيحضر،
إن شاء الله، معرض الكتاب في القاهرة.
أسامة: عظيم، عظيم.
عبد الباسط: المجموعة الأخرى شبه جاهزة. جاهزة بنسبة 90%، واسمها الوقت، جهة خامسة. وهي المجموعة الكبيرة لما بعد الثورة. وهناك مجموعة أخرى شبه جاهزة وهي عبارة عن الكتابات
اليومية الخاصة بالفيسبوك واسميتها ( تمارين شعرية ). وهناك كتاب بدأت به وتشكل عبر الأماكن. صدمتي دائماً هي بالأماكن. أُصدم الصدمة الأولى ثم تتشكل... أسميته (جغرافيا الروح ). كتبت عن
علاقتي بالمكان وصدمتي الأولى بالمكان، والعواصم مثل طرابلس والقاهرة وتونس وعمان
واسطنبول الخ. بشكل عام،
المكان هو العواصم.
أسامة: جميل.
عبد الباسط: العواصم تصدم المبدع. فالمبدع الوافد من خارج العاصمة تبهره العاصمة. فالوقت فيها ضيق وينتهي الوقت بسرعة. فكتبت كتاباً أسميته جغرافيا الروح يهتم برصد انطباعاتي
حول المكان. هناك مزيج من
النثر ومن الشعر. النثر السردي يحاول أن يحيط بالشعر ويقبض على وتوقده وتوهجه.
أسامة: نود أن ننتقل الآن إلى صوت الشاعر. نريد أن نسمع قصائد، لو تفضلت.
عبد الباسط: إن شاء الله. هي مجموعة قصائد. أنا أحب أن أقرأ ما يناسب الوطن. هناك قصيدة اسمها قناديل كُتبت في عام 2002، وصدرت في ديوان أوقات خارج الوقت.
جئنا ..
نعقدُ للحلمِ قُبةَ الفجرِ
نحبو للسماءِ بعيونٍ شاخصة
نقترحُ طقساً للقلبِ
ونفردُ أعمارنا عقودَ أملٍ
نطردُ الحزنَ بعيداً
نقطفُ الوعدَ الناضج
ونُغمِضُ بياضَ الورقة
عن سطوةِ المخالب
نغني للصبحِ تزفُّه القناديلُ
وتُشهرهُ الروحُ الشامخةُ درباً
من سَكِينة.
جئنا ..
على غفلةٍ الوجعِ
نَغمِسُ المساء في ضوءٍ طليق
نلقِّنُ الزمنَ حفنةَ الأمنياتِ
ونكسرُ الظلمةَ بأصابعَ من لهبٍ
نُشَكّلُ الظِلالَ باحةً للشموعِ
ونسكبُ العِطرَ موعِداً للفراشاتِ
نُصغي لعرسِ المطرِ
نعدُ البلابلَ بأعشاشٍ راسخة
نفرشُ للغيمِ لهفة السنابل
نهُزُ جذعَ السؤالِ
فتنتظمُ الكلماتُ سُلَّماً
من ضياء.
نصعدُ مراقيَ الحلمِ بألفِ رغبة
ونقول : إننا هنا
ننثرُ الفرحَ على امتدادِ العمرِ
نُـهيّئ للغدِ باقةً من رجاءِ
نتوِّجُ الوطنَ قِبلةً
ونجيء مع الفجرِ أحلاماً وعصافيرَ
إننا هنا . .
فانتظر أيها الوقتُ
وأتسع
أيها المكانُ.
أسامة: جميل، جميل. هل تود أن تقرأ نصاً آخر؟ لدينا بعض الوقت لنص آخر.
عبد الباسط: سأقرأ نواقص وهي قصيدة كتبتها في عام 2003.
ونشرت في ديوان ( أوقات خارج الوقت)
ينقصني الكثيرُ
من الصمتِ
ولهفةٌ مُصطفاة
وحزنٌ حكيمٌ
تنقصني دهشةُ
الروحِ
في مساربِ
الرؤيا
ذوبانُ العمرِ
في أكوابِ الرحيق
هُطولُ الفرحِ
نبضُ الحرفِ
الرقيق.
تنقصني :
مسافاتٌ للعطرِ
وقبضةٌ للحبرِ
وقفصٌ للأمنيةِ
وشِباكٌ للضحكِ
المراوغِ
ينقصني جناحٌ من
أسئلةٍ.
وأصدقاءٌ
يُعلمونني
كيف استدرج
حيرتي
إلى فخِّ
اليقينِ.
ينقصني وطـنٌ
أقودُ صوبه
خُطاي الخائبةَ
فيُعلنني
أرجوحةُ أملٍ !!
ويفتحُ في القلب
نافذةً من نشيد.
. . . . . . . .
. . . .
ينقصني ..
لأعرفَ كيف :
أُذوّبُ مَشاغلي
الـمُؤجلةَ
وكيف أرتدي
فوضايَ ؟!
دون أن أتعثّرَ
في النظامِ !!
كيف أنفخُ في
النثرِ روحَ القصيدة ؟!
كيف أُشعلُ
الوظيفة ؟!
كيف أُرمّمُ
طفولتي ؟!
كيف أذهبُ في
الخيال ؟!
دون أن تجرحني
العيونُ
ويرهقَ كاهلي
صهيلُ الرغبةِ.
. . . . . . . .
. . . . . . . .
ينقصني الكثيرُ
لأمرَّ إلى
قلبي :
دون أن
تتوزَّعني المخاوفُ
دون أن تبزغَ
الظلالُ
و تستدير
الجهاتُ
دون أن تتوهَ
الخطوةُ
وينفلتَ
الاحتمالُ بعيداً !!
. . . . . . . .
. . . . . . . .
ينقصني الكثيرُ
لاشتهي حياةً
مُغايرةً
وأرسمَ وطناً في
غفلةِ الطلباتِ !!
أسامة: جميل، جميل. في الختام، أشكر الشاعر الليبي عبد الباسط أبو بكر محمد باسمي أنا أسامة
اسبر وباسم مجلة الوضع الصوتية. وأهلاً وسهلاً بك في برنامجنا بأصواتهم، الديوان الصوتي للشعر العربي
الحديث. وأتمنى أن
تجمعنا في المستقبل لقاءات أخرى معك.
عبد الباسط: أحييك أستاذ أسامة. أنا سعيد جداً بالتواصل معك. كنت أحتاج إلى هذه الفسحة الإعلامية. أعدتني إلى بعض القصائد. أوقفت بعض القصائد والأفكار في ذهني وفي خاطري. شكراً لك مرة أخرى وشكراً لمجلة الوضع.
أسامة: شكراً لك أيضاً.